المؤثرون
أخر الأخبار

الأم المصرية.. خط الدفاع الأول عن الأمن الاقتصادي والإنساني في زمن الأزمات

بقلم: الدكتورة منى وهبة

 

في قلب الأزمات الاقتصادية والتحولات الاجتماعية التي شهدتها مصر، ولا سيما منذ عام 2011، برزت الأم المصرية كفاعل محوري تجاوز دور الرعاية التقليدي للأسرة، لتصبح عنصرًا حاسمًا في حماية الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي للدولة، من داخل البيت، وفي صمت.

تعرض الاقتصاد المصري خلال السنوات الماضية لسلسلة من الضغوط المتلاحقة، انعكست آثارها المباشرة على الأسرة باعتبارها أصغر وحدة اقتصادية واجتماعية في المجتمع. وفي خضم هذه التحديات، أدارت الأم المصرية الأزمات اليومية بقدر عالٍ من الحكمة والمرونة، وتحملت مسؤوليات اقتصادية واجتماعية تفوق في كثير من الأحيان ما تتحمله مؤسسات كاملة، بل وما تواجهه أمهات في مجتمعات أخرى عديدة.

تشير بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء إلى أن نسبة الأسر التي تعولها امرأة في مصر تتراوح بين 29% و33% من إجمالي الأسر. غير أن هذه النسبة، على أهميتها، لا تعكس الصورة الكاملة؛ فحتى داخل الأسر التي يعيلها رجل رسميًا، غالبًا ما تكون الأم هي العقل الاقتصادي الحقيقي للأسرة، حيث تدير ميزانية المنزل، وتحدد أولويات الإنفاق، وتوازن بدقة بين دخل محدود واحتياجات متزايدة، بل وتساهم في كثير من الأحيان بجزء ملموس من موارد الأسرة.

بهذا المعنى، تمارس الأم المصرية دورًا اقتصاديًا غير مرئي في الحسابات الرسمية، لكنه بالغ التأثير في الحفاظ على التماسك الاجتماعي، ومنع الانزلاق نحو تفاقم الأزمات، وتؤدي هذا الدور بتفانٍ استثنائي، متجاوزة احتياجاتها الشخصية الأساسية، مدفوعة بهدف تعتبره مقدسًا: بناء حياة أفضل لأبنائها اقتصاديًا وتربويًا وتعليميًا، حتى وإن تجاوز ذلك في أحيان كثيرة القدرة المادية للأسرة.

ورغم الضغوط الاقتصادية وارتفاع تكاليف المعيشة، تضع الأم المصرية تعليم أبنائها على رأس أولوياتها، باعتباره الاستثمار الأكثر أمانًا على المدى الطويل، والأداة الأهم للترقي الاجتماعي، وتؤكد بيانات بحث الدخل والإنفاق أن الأسر المصرية تنفق ما بين 9% و16% من إجمالي مصروفاتها السنوية على التعليم.

إلا أن هذا الإصرار على التعليم كأولوية لا تقبل المساومة يصطدم بواقع مقلق، تمثل مؤخرًا في تزايد شكاوى التحرش داخل بعض المدارس والحضانات، إلى جانب ضعف منظومات الرقابة وغياب برامج إلزامية شاملة لحماية الطفل. وهو ما يضع الأم أمام معادلة قاسية بين الحرص على تعليم أبنائها، والخوف على أمنهم النفسي والجسدي.

وتكشف بيانات وزارة التضامن الاجتماعي أن عدد الأطفال الملتحقين بدور الحضانات في مصر يبلغ نحو 1.7 مليون طفل، أي أقل من 20% من إجمالي الأطفال في الفئة العمرية من صفر إلى أربع سنوات. ولا تعكس هذه الأرقام فقط محدودية الطاقة الاستيعابية أو العجز الاقتصادي لبعض الأسر، بل تكشف أيضًا عن تردد واضح لدى كثير من الأمهات في الاعتماد على الحضانات، نتيجة مخاوف تتعلق بضعف الرقابة، وتفاوت جودة الخدمات، وغياب منظومة متكاملة لحماية الطفل.

هذا الواقع يدفع عددًا كبيرًا من الأمهات إلى تحمّل أعباء إضافية داخل المنزل، أو الخروج الجزئي من سوق العمل، بما ينعكس سلبًا على مشاركة المرأة الاقتصادية وعلى الاستقرار الأسري.

ولا يتوقف قلق الأمهات عند حدود التعليم المبكر أو المدرسي، بل يمتد إلى النوادي ومراكز التدريب الرياضي، حيث أدى ضعف الإشراف، وغياب معايير السلامة، وقصور آليات الشكوى، إلى تراجع ثقة الكثير من الأسر في هذه المؤسسات، رغم إدراكهن لأهمية الرياضة في بناء شخصية متوازنة صحيًا ونفسيًا.

لم يعد الأمن الإنساني مفهومًا نظريًا، بل أصبح مرتبطًا بشكل مباشر بقدرة الأسرة على توفير بيئة آمنة نفسيًا وتعليميًا واجتماعيًا للأطفال. وتظل الأم المصرية الطرف الأكثر التصاقًا بهذه المهمة، حيث تتحمل العبء الأكبر في حماية التوازن النفسي داخل الأسرة، والتعامل مع الأزمات اليومية، ومنع الانحراف.

إن قنابل التحرش والإهمال التي تفجرت مؤخرًا تمثل مؤشرًا خطيرًا على اهتزاز مفهوم الأمن الإنساني للطفل في مصر، وتُعد صدمة حقيقية لكل أم مصرية، على اختلاف طبقاتها الاجتماعية، بذلت الكثير، خاصة في أوقات الأزمات الاقتصادية، من أجل الاستثمار في رفاهة أبنائها، لتصطدم بواقع قاسٍ يفتقد أبسط حقوق الطفل: الأمان الإنساني.

وإذا كانت رؤية مصر 2030 تستهدف بناء دولة حديثة قائمة على التنمية المستدامة والاستثمار في رأس المال البشري، فإن أي حديث جاد عن هذه الرؤية لا يكتمل دون وضع الأم المصرية وأطفالها في صميم معادلة الأمن الإنساني والاقتصادي.

إن غياب سياسات واضحة لحماية الطفل، وتشديد الرقابة على المؤسسات التعليمية والرياضية، وجذب استثمارات جادة وواعية في قطاع التعليم، لا يمثل خللًا اجتماعيًا فحسب، بل يشكل مخاطرة استراتيجية تهدد جودة رأس المال البشري الذي تراهن عليه الدولة في مستقبلها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى